الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مكة المكرمة هي الوسط الهندسي للعالمين القديم والجديد معاً:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثامنة والخمسين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)﴾
أيها الإخوة الكرام؛
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)﴾
قال علماء الجغرافيا: مكة المكرَّمة هي الوسط الهندسي للعالم القديم والجديد معاً، العالم القديم، آسيا، وإفريقيا، وأوقيانوسيا، وأوروبا، أطراف العالم القديم أي طرف من هذه الأطراف يبعد عن مكَّة ثمانية آلاف كيلو متر، إذا أضفنا العالم الجديد أمريكا الشمالية والجنوبية، أيّ طرف من أطراف العالَم الجديد يبعد عن مكة المكرَّمة ثلاثة عشر ألف كيلو متر، فمكة المكرمة هي الوسط الهندسي للعالمين القديم والجديد معاً.
هي أول بيتٍ وُضِع للناس، لأن الله عزَّ وجل خلق الإنسان بطبيعةٍ ماديَّة، فالإنسان إذا أراد أن يتقرَّب إلى الله يذهب إلى بيته، صار هناك هدف، الله عزَّ وجل قدَّس هذا المكان، المكان ليس مُقدساً بذاته إلا أن يقدسه الله عزَّ وجل، فأمرنا أن نقبّل الحجر الأسود، وأمرنا أن نضرب رمز الشيطان بالحجر، فرمز الشيطان محتقر نرجُمه، والحجر الأسود مقدسٌ نُقبّله، لا لعلةٍ فيه بل لأن الله أمرنا أن نفعل ذلك.
ربنا عزَّ وجل اتّخذ هذا البيت الحرام ليكون وسيلةً لإقبال العباد عليه سبحانه:
إذاً الله عزَّ وجل اتّخذ هذا البيت بيتاً له وقال: تعالوا إليّ، أقبِلوا عليّ، تقول له أنت: لبيك اللهمَّ لبيك، هذا الشيء يقودنا إلى الحج، الإنسان يصلي في بلده، يصلي في بيته وزوجته إلى جانبه وأولاده، وعمله قريب من بيته، أما حينما يحج بيت الله الحرام لابدّ من ترك بيته، وترك زوجته، وترك أولاده، وترك منصبه، وترك مكانته، وترك عمله، وأن يتوجَّه إلى بيت الله الحرام متفرِّغاً لله عزَّ وجل، فإذا فرَّغ نفسه لله عزَّ وجل، فإن الله جلّ جلاله يفرغه مما سواه مكافأةً له على هذا التفرُّغ، فاسأل أي حاجٍ ذهب إلى بيت الله مخلصاً، أي مشكلةٍ يعاني منها، أي همّ في بلده يمحوه الله عنه ما دام في الحج.
إذاً الله عزَّ وجل من أجل أن تدفع ثمن لقائه اتّخذ بيتاً، وقال: تعال إليّ، من أجل أن تدفع ثمن لقائه.
مثل بسيط: لو أن طالباً والده أستاذ رياضيات متفوِّق، والأب أعطى ابنه درساً طبعاً بلا ثمن، لأن الدرس مجاناً، قد ينتبه وقد لا ينتبه، قد يستفيد وقد لا يستفيد، أما حينما يدفع الطالب مما قد جمَّعه في صيفٍ بكامله ثمن دروس لأستاذ رياضيات، كله آذانٌ صاغية، لأنه دفع ثمن هذا الدرس من ماله الشخصي.
والإنسان حينما يترك بيته، ويترك أهله، وأولاده، وعمله، ويُؤثر تلبية دعوة الله على كل حظوظه من الدنيا، دفع ثمن هذا اللقاء، لذلك الله اتّخذ بيتاً وقال: تعالوا إليّ، أي تعال يا عبدي لأريحك من همومٍ كالجبال، تعال يا عبدي لتذوق طعم القرب مني، تقول له: لبيك اللهمَّ لبيك، فربنا عزَّ وجل اتّخذ هذا البيت الحرام ليكون وسيلةً لإقبال العباد على الله عزَّ وجل.
إبراهيم عليه السلام له موقفان انفرد وتفوق بهما:
طبعاً هذه مقدمة، أما الذي أريد أن أقوله لكم: سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، وقد قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾
أي اتّخذوا من أعمال إبراهيم طريقاً إلى الله، اتّخِذوا من الأعمال الجليلة التي قام بها إبراهيم طريقاً إلى الله عزَّ وجل، ماذا فعل إبراهيم؟ إبراهيم عليه السلام له موقفان ينفرد بهما، أو تفوّق بهما.
1 ـ التوكُّل المُطلق على الله:
الموقف الأول: التوكُّل المُطلق على الله، طبعاً نحن نتوكَّل على الله، ولكن نأخذ بكل الأسباب، أنت حينما تسافر يكون البيت ممتلئاً بالطعام والشراب، وكل الأشخاص يلبّون طلباتك في غيبتك، ووضعت عندهم المال الكافي، وهناك هاتف، وكل شيء مُيسَّر، وصيت أُناساً كثيرين في تلبية طلباتهم في غيبتك، أما أن يأتي هذا النبي الكريم بزوجته هاجر وابنه، ويضعهما في وادٍ غير ذي زرع ويذهب، تقول: "آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا الله عزَّ وجل" .
هذه ثقة بالله ليس لها حدود، أنت حينما تثق بالله لابد من أن يكون الله معك، هذه المرأة والأم، تعرفون من الأم، أية أم، إذا أم زوجة نبي كريم ليس هناك شراب تشربه، ماء لا يوجد، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لن يُضيعنا الله أبداً، وضعها بين الصفا والمروة، صخرتان أو مرتفعان في موقع مكة، في أول بيتٍ وضع للناس، فمن شدة حرصها على ابنها، وعلى سلامته، أين الماء؟ راحت تسعى بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء، ولكن مسعاها لم يجدِ شيئاً، طفلها الصغير ضرب بقدمه الأرض، أحياناً تحفر خمسمئة متر لا تجد ماء، فانفجر من تحت قدمه نبع زمزم.
فربنا عزَّ وجل علَّمنا بهذا الدرس أنك إذا توكلت على الله حقَّ التوكُّل كان الله معك، ولن يُضَيعك، طبعاً هذا توكُّل مطلق، نحن لسنا أنبياء، نحن مأمورون أن نأخذ بكل الأسباب وأن نتوكل على الله رحمةً بنا، أما إنسان يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرع، حيث لا ماء، والإنسان كما تعلمون بلا ماء يموت في أيام معدودة، أعتقد في ثلاثة أيام ينتهي، بلا هواء أربع دقائق، أو ثلاث دقائق، بلا ماء ثلاثة أيام، فلذلك علَّمنا الله عزَّ وجل من هذا الدرس كيف أنك إذا وثقت به عزَّ وجل كان الله معك.
لكن عندنا حكم شرعي، وعندنا موقف شخصي، فالذي فعله هذا النبي الكريم موقف شخصي، لكن علَّمنا مُطلق التوكل، لأن الله عزَّ وجل خلق الكون على نظام السببية، فلما أراد أن يكون البحر طريقاً يَبَساً ما جعله طريقاً يبساً إلا بسبب:
﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)﴾
ضَرَب البحر بالعصا فصار طريقاً يَبَساً كالطود، فربنا عزَّ وجل حينما يريد أن يصنع شيئاً بفعله مباشرةً يجعله بسببٍ أرضي، نظام السببية نظام أساسي، إنك تؤمن بالله عن طريق نظام السببية، كل شيء له سبب، من هو المسبب الأول؟ إنه الله، فحتى هذا النبع الذي هو الآن نبع ماء زمزم، كان بسبب أن هذا الطفل الصغير من شدة عطشه ضَرَب برجله الأرض فانبجس هذا النبع العظيم، وهذا النبع يُحيِّر العقول، أي مجموع الأمطار التي تهطل في مكة وما حولها لا تكفي لهذا النبع، وكلكم يعلم كيف أن هذا النبع يُلبّي أربعة ملايين حاج، وينتقل هذا الماء إلى المدينة المنوُّرة -شيء عجيب-أرض قاحلة، أرض جافَّة، لا نبات فيها ولا ماء، هذا النبع مستمر، وهو آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته.
2 ـ العبوديَّة الكاملة لله عزَّ وجل:
شيء آخر الدرس الثاني: علّمنا هذا النبي العظيم العبوديَّة الكاملة لله عزَّ وجل حينما أمره أن يذبح ابنه، شيء ليس في طاقة البشر، أنْ يُؤمَر إنسان أن يذبح ابنه الذي بلغ معه السعي، الطفل الصغير حينما يصبح فتًى، وعلَّمه، وربَّاه، وهذَّبه، وصار يساعده، الآن اذبحه، أيضاً هذا درس في الانقياد لله عزَّ وجل ليس له حدود، الله عزَّ وجل قال: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ أي إن أردت أن تصل إلى الله فبادر إلى طاعته، وأعلن عبوديتك له، ثم توكَّل عليه:
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾
قضية التوكل غائبة عن الناس، تجد كل إنسان عنده هموم تسحقه، إذاً أين الله؟ كل شيء بيد الله عزَّ وجل، توكل على الله، كن معه وتوكل عليه، أطعه وتوكل عليه، بادر إلى العبودية له وتوكل عليه.
أيها الإخوة؛ فهذه المرأة الكريمة -زوجة سيدنا إبراهيم-التي سعت بين الصفا والمروة، وكان من سعيها أن تَفجَّر نبع زمزم، هذا درس علَّمنا إياه ربنا عز وجل من خلال هذه القصة، وعلَّمنا أيضاً كيف أن الله سبحانه وتعالى حينما امتَحن إبراهيم عليه السلام بأنه أمره بذبح ابنه، كيف أن هذا النبي العظيم بادر إلى هذا الأمر دون تردُّد:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾
ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ الذي حدث أن العرب في الجاهليَّة جعلوا على الصفا صنماً، وعلى المروة صنماً، وصاروا يسعون بين الصفا والمروة تعظيماً لهذه الأصنام، فحينما جاء الإسلام عزف المسلمون عن السعي بين الصفا والمروة لأنه سعيٌ بين وثنَين، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعيد لهذا المكان قدسيَّته فقال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ ما معنى من شعائر الله؟ الشعائر جمع، مفردها شعيرة، هي مكان ولكن هذا المكان له خصوصية، في هذا المكان ينبغي أن تنتابك مشاعر خاصَّة، فإن أتيت بيت الله الحرام صادقاً، مُنيباً، مُخلصاً، أنت في هذا المكان بين الصفا والمروة لابد من أن تشعر بشيء، بحالة من القرب، بل إن الإنسان حينما يحج بيت الله الحرام يبدأ بالطواف، كطواف المُحب حول محبوبه، ويسعى بين الصفا والمروة كسعي المُشتاق إلى مشوقه، أي حالات نفسيَّة، هذا معنى الشعائر، أي أمكنة يجب أن تشعر بشعورٍ مقدسٍ وأنت فيها.
الذي يعجب بالإنسان أن إنسانَاً يذهب إلى الحج ويعود، ويحدثك عن كل شيء إلا الحج، يحدثك عن المبيت، وعن الطرق، وعن المشاريع العمرانيَّة، وعن تأمين الماء البارد، وعن تأمين الطعام، والمواصلات، وكيف وصل إلى الديار المقدسة، وكيف غادر هذه الديار، وأي رحلة ركب، وكم انتظر، شيء عجيب، يحدثك عن كل شيءٍ إلا الحج، وأنت في الطواف ماذا شعرت؟ وأنت بين الصفا والمروة ماذا شعرت؟ وأنت على عرفات ماذا شعرت؟ أيعقل أن يقول لك الله عزَّ وجل: تعال اترك أهلك، وبيتك، ومالك، وعملك، واجلس هنا هكذا بلا شعور؟ بلا إحساس؟ بلا إقبال؟ بلا شيء ثمين تملكه وأنت في الحج؟ فلذلك الله عزَّ وجل أراد أن يُزِيل وثنية هذا المكان المقدس وقال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ دعوكم من الأصنام التي كانت في الصفا وفي المروة، وهذان المكانان قدَّسهما الله عزَّ وجل لأنهما يُشيران إلى التوكُّل الذي علَّمنا إياه سيدنا إبراهيم.
هل هناك إنسان الآن لا توجد عنده قائمة هموم؟ لا يوجد إنسان إلا وعنده قائمة من الهموم، لماذا لا تتوكل على الله؟ لماذا لا تضع هذه الهموم عند الله عزَّ وجل؟ لماذا لا تكتفي أن تطيعه وعلى الله الباقي؟ هذا حال مريح جداً، الله عزَّ وجل خلقنا، وبيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، وكل شيء يغيره، وكل شيء يبدله، فأنا عليّ أن أطيعه، وعلى الله الباقي، أي دبّر ألا تُدبّر، لا أقول: تتواكل، لا، لكن لا تجعل الهم يسحق الإنسان، حياة الإنسان معقدة جداً، ولاسيما في هذه الأيام، الحياة صعبة، الحاجات كثيرة، المكاسب قليلة، هناك منافسة، هناك خوف، هناك قلق، هناك حرمان أحياناً، هناك شعور بالضياع، هذا علاجه التوكُّل، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ درس التوكل علمنا إيَّاه ربنا من خلال قصة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم.
الشعور بالأمن هو أثمن شعورٍ يُسعد الإنسان:
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ الله عزَّ وجل قال:
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾
أي الله عزَّ وجل يُلقي في قلب الحاج من الأمن ما لا يوصف، الشعور بالأمن شعور لا قدَّر بثمن، بل إن الشعور بالأمن يُعدّ أثمن شعورٍ يسعد الإنسان، الله عزَّ وجل قال:
﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)﴾
رفع صلاح البال إلى مستوى الهدى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ آيات كثيرة جداً: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ .
السعادة في الحج تكون من خلال الاتصال بالله عزّ وجل:
أنت حينما تحجّ بيت الله الحرام تتمنى أن تعود إليه كل عام للسعادة التي ألقاها الله في قلبك، والحقيقة هناك نقطة دقيقة جداً هي: إن اللذَّة الماديَّة لها شرائط، والسعادة الروحيَّة لها شرائط، الله عزَّ وجل جَمَّد كل أسباب اللذَّة الجسميَّة، بلاد حارة، جعل الحج في وقت محدد، إذاً كل هؤلاء الناس سيأتون إلى هذا المكان في وقتٍ واحد، أربعة ملايين إنسان لابدّ من أن ينتقلوا من عرفات إلى مِنى في وقتٍ واحد، أصعب عُقدة في الحج النفرة، أربعة ملايين لابد من أن يطوفوا حول الكعبة.
جاء وفد لتنظيم الحج فقدَّم تقريراً مطولاً للقائمين على الحج هناك، فكان من بنود هذا التقرير أن يكون الحج على خمس دورات في السنة، بعيد عن جو الحج، على خمس دورات في السنة، الله عزَّ وجل جعل كل أسباب الراحة الجسمية مُعطَّلة في الحج، ومع هذه الأسباب المعطلة هناك سعادة تفوق حدّ التصور لمن كان صادقاً في حجه، هذا الشيء دقيق.
لو أن المكان جميل، والهواء عليل، والطعام طيب، والمناظر خلابة، والحج على مدار العام، صار الحج سياحة، الأوراق اختلطت، يا ترى أنت كنت سعيداً بهذه المناظر وهذا الطعام والهواء العليل أم بإقبالك على الله؟ أراد الله أن تكون السعادة في الحج من بابٍ واحد إنها الاتصال بالله.
فكل أسباب السعادة الأرضيَّة معطلة هناك:
﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)﴾
الحر لا يُحْتَمَل، الازدحام لا يُحْتَمَل، فالله عزَّ وجل أراد أن تعرف أنك إذا اتصلت به وأنت في أصعب الظروف تكون أسعد الناس، وحينما تنقطع عنه وأنت في أجمل الظروف تكون أشقى الناس، هذه السكينة التي يُلقيها الله في قلب المؤمن يسعد بها ولو فقد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو مَلَكَ كل شيء، كأن الحج وسيلةٌ فعَّالةٌ من أجل أن تتصل بالله عزَّ وجل، فرَّغك، قال له: تعالَ إليَّ، دع بيتك، دع مكانك المريح، لك غرفة خاصة، لك مقعد وثير بين زوجة وأولاد وبنات وأصهار، بعملك ومكتبك، دعك من الدنيا وتعالَ إليَّ، تعالَ وارتدِ هذين الثوبين الخشنين، عاري الرأس، حافي القدمين، أو شبه حافي القدمين، تعالَ طُف حول الكعبة، اسعَ بين الصفا والمروة، انتقل إلى عرفات، ابتهل، ادعُني، توجَّه إلي، هذه السعادة.
السعادة التي يمتلكها الحاج في اتصاله بالله هي دليل أن الإنسان لا يطمئن إلا بذكر الله:
لذلك إذا جلست مع حاجٍ حجَّ حجاً مبروراً، وقَبِل الله حجَّه، تشعر أنك في جنة، ما هذه الجنة؟ السفر صعب، تَرْك الأهل أصعب، والإنفاق شديد، والحر شديد، قال: السعادة التي يمتلكها الحاج في اتصاله بالله مع كل الظروف الصعبة التي تحيط به هي دليل أن الإنسان لا يطمئن إلا بذكر الله، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾ حجَّ البيت أي قصد البيت، اعتمر زار:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)﴾
هذا الموضوع لابد من أن يقودنا إلى الحج، الحقيقة الصلاة شحنة تُعينك على أن تصل إلى صلاةٍ الثانية، شحنة قصيرة، الصبح، الظهر، العصر، المغرب، العِشاء، خمس أوقات، كل وقت يضمن لك السلامة والسعادة إلى وقتٍ آخر، لكن شحنة يوم الجمعة هذه شحنة أطول تكفيك أسبوعاً بأكمله، لكن شحنة الصيام هذه تكفيك مدى العام، أما شحنة الحج فهذه مدى العمر، الحاج إذا ذهب إلى بيت الله الحرام، وعاد منه، يجب أن يعود إنساناً آخر، يجب أن يعود متّقد الفؤاد، صار له هذا القرب من الله عزّ وجل، إلا أن الناس حينما يتأخرون في دينهم، يحجون رياءً وسمعةً أو للتجارة، أما الذي يحج بيت الله الحرام مخلصاً يرى ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الله اتّخذ هذا البيت الذي ببكة بيتاً له، وأمر عباده المؤمنين أن يأتوه زائرين وحاجين، الله يتولَّى بذاته مكافأتهم وإكرامهم، قد يقول الحاج: ماذا حصل لي؟ أنت حينما حججت بيت الله الحرام حصل لك القُرب، ومع القرب الأمن، ومع الأمن السلامة، ومع السلامة السعادة، أنت حينما زرت بيت الله الحرام ذقت طعم القرب من الله عندئذٍ تزهد في الدنيا كلها.
أراد الله أن يجعل الصفا والمروة مكانين لعبادته وطاعته وشعيرتين من شعائر المسلمين:
﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ لأن المسلمين في أول عهدهم كانوا يتحرَّجون أن يطَّوفوا بين الصفا والمروة، لأنه كان على الصفا صنم، وعلى المروة صنم، فربنا عزَّ وجل أراد أن يجعل من هذين المكانين اللذين دُنِّسا بالصنمين، أن يجعلهما مكانين لعبادته وطاعته، وشعيرتين من شعائر المسلمين، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ يطَّوَّف: أي سبعة أشواط، لأن هناك فرقاً بين كَسَرَ وكسَّر، كسَر القطعة إلى قطعتين، أما كسَّرها أي إلى قطع كثيرة، ففعل يطوَّف أي أن يكون طوافه كثيراً، والنبي اختار سبعة أشواط تجسيداً لكلمة يطوَّف بهما، ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ .
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)﴾
ذكرت أنا قبل أسبوعين أن هناك كبائر، والكبائر مُهلكة، وكلكم يعلم أن الكبائر هي التي تَوَعَّد الله على مرتكبها وعيداً مخيفاً، أو لعنه، أو هي الأعمال التي تُوجِب إقامة الحَد، على كل هناك خلاف بين العلماء في تعريف الكبيرة، لكن من أدق أنواع التعاريف للكبيرة أن العمل الذي يستحق فاعله وعيداً من الله عزَّ وجل، أو لعناً، أو غضباً، أو تُوجِب حداً.
هناك كبائر ظاهرة وهناك كبائر باطنة، الظاهرة شرب الخمر، الظاهرة تعلُّم السحر مثلاً، العلماء عدَّدوها إلى سبعين كبيرة، ولكن الكبائر الباطنة أخطر من الظاهرة بكثير، من هذه الكبائر الباطنة ذكرتها قبل أسبوعين الأمن من مكر الله، هذه كبيرة، إذا كان الإنسان مقيماً على معصيةٍ، ولا يبالي بها، والله يمدّه بالمال والقوة، فإذا كنت على معصية، وكان هناك عطاء من الله لك، ولم تخف، فأنت قد أمنت من مكر الله، الله عزَّ وجل لا يجعل من هذه النعمة نعمة إنما هي نِقمة، إنما هي استدراج، فهذه كبيرة من الكبائر الباطنة، الأمن من مكر الله، هناك كبيرة أخرى من هذه الكبائر الباطنة هي اليأس من روح الله، هناك كبيرة ثالثة هي سوء الظن بالله، واليوم تحدثت عن كبائر أربعة أو خمسة، من هذه الكبائر كتمان العلم، أي أنت معك معلومات حقيقيَّة، صحيحة من الكتاب والسنة، كنت في موقف، الحاضرون في أمسّ الحاجة لهذه المعلومات، ولكنك إن ألقيتها ضعضعت مركزك فكتمتها، فكتمان العلم كبيرةٌ من الكبائر التي تُوجب لعنة الله والناس والملائكة أجمعين، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ بعضهم قال: هم اليهود الذين كتموا صفة النبي في التوراة، الله عزَّ وجل وصف رسول الله في التوراة وصفاً دقيقاً، لدرجة أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك كتموا هذه الأوصاف من أجل عداوةٍ، أو حسدٍ، أو بغضاء مع المسلمين، فكتمان العلم من أكبر الكبائر، فالله عزَّ وجل توعَّد هؤلاء الذين يكتمون ﴿مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ .
لا سبيل إلى الشعور بالأمن إلا بطاعة الله عز وجل:
مرَّة حضرت مؤتمراً عن الأسرة مدة يومين -أول يوم فيه خمس جلسات، وثاني يوم فيه خمس جلسات-تمنيت على المحاضرين أن يتكلَّموا كلمة عن الدين، أو عن الإسلام، أو عن الله عزَّ وجل، وهذا موضوع خطير متعلِّق بالدين، بمنهجنا الاجتماعي، فهناك الآن رغبة بعزل الدين عن الحياة، حقائق الدين مشرقة، حقائق الدين صارخة، حقائق الدين مُسعدة، حقائق الدين غذاء لنا، ومع ذلك الآن تُطرح أي موضوع بمعزل عن الدين، ولا كلمة، الكلام كله مادي، كله بعيد عن هذا الدين القويم، يقول لك: قيم روحية، الحس الأخلاقي، أي حس أخلاقي هذا؟
الذي هو حقيقي أن تؤمن بالله أن الله سيحاسب، وباليوم الآخر تنضبط، أما بحس أخلاقي، يقول لك: قيم روحيَّة، شيء جميل! ومشروبات روحية، مثل بعضها، يوجد عزل للدين، حتى المثقف ثقافة عالية حرّ التفكير، علماني، يُعتّم على الدين تعتيماً كاملاً، مع أنه بفطرته يعلم لا سبيل إلى سعادة الإنسان إلا بالدين، ولا سبيل إلى الشعور بالأمن إلا بطاعة الله عزَ وجل، فتجد موضوعات إنسانيَّة، موضوعات فلسفيَّة، موضوعات اجتماعية، موضوعات اقتصادية تُعالَج بطريقةٍ أو بأخرى بعيداً عن الدين، فهذا ينطبق على هؤلاء هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فهذه الآية هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من البيِّنات، أي يعرف الحق لكن المناسب أن يكتمه فكتمه، ما الذي يحصل؟ طريق السعادة الوحيد هو الله، فإذا أنت قطعتَ الطريق إلى الله منعت الناس من السعادة والسلامة.
طريق السلامة أن تطيع الله وأن تعرفه:
الناس رجلان؛ مُقرِّب ومُبْعِد، مُحبِّب ومنفّر، موصل وقاطع، لا يوجد حل ثالث، إما أن تُوصل الناس بالله، وإما أن تقطعهم عنه، إما أن تُحببهم به، وإما أن تُنفّرهم منه، إما أن تقنعهم بأحقيّة الدين، أو أن تقنعهم بأحقية الحياة الماديَّة، فالذي يكتم علماً مقدّساً يعرفه حفاظاً على مكانته، أو طلباً لسلامته، ماذا فعل؟ قطع الناس عن الله عزَّ وجل.
يا رب، أي عبادك أحبّ إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبّ عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحبّ من أحبني، وحببني إلى خلقي.
فإذا كان طريق السلامة هو أن تعرف الله، طريق السلامة أن تطيع الله، توجد نقطة بالحياة؛ يوجد عندنا مشكلات كثيرة، كل مشكلة تُعدّ عند الجهلة بحدّ نفسها مشكلة، أما الحقيقة فكل هذه المشكلات أعراض لمشكلةٍ واحدة هي الإعراض عن الله، هذه اسمها: أعراض الإعراض؛ ما يعاني الناس من ضيق، من خوف، من قلق، من جفاف، من كساد، هذه كلها تأديبات من الله، أهل الدنيا يُبعدون الدين عن حلّ هذه المشكلات، يريدون أن يحلوها بطريقةٍ مادية، والطريق قد يكون مسدوداً، أما حينما تقول للناس:
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)﴾
[ سورة الجن ]
حينما تربط الناس بالله عزَّ وجل، حينما تطمئنهم أن الأمر بيد الله، لا بيد زيد ولا عُبيد، الشرك يقطع الناس عن الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)﴾
أكبر عقاب يعاقب الله به أعداءه أن يحجبهم عنه:
أنت عندما تبيِّن أن الأمر بيد الله عزَّ وجل، لا توجد أي جهة أرضيَّة بيدها الأمر:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
الأمر له، هذا كلام مريح للنفس، هذا كلام مُطمئن، فأنت حينما تُعتّم على حقائق الدين، تُعتّم على التوحيد، تُعتّم على أن الدين هو ملاذ الإنسان إلى الله، حينما تُعتّم على أن الدين هو المُسعد الحقيقي، حينما تُعتّم عن أن منهج الله هو المنهج الوحيد الموصل إلى السعادة، أنت حينما تُعتّم على هذه الحقائق تقطع الناس عن الله، توقعهم في الشقاء الدنيوي والأخروي، لذلك يلعنهم الله، أي يبعدهم عنه، وأكبر عقاب يُعاقِب الله به أعداءه أن يحجبهم عنه.
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ اللاعنون هم الخلق كافةً، قال: حتى البهائم، الإنسان حينما يبتعد عن الله يقسو قلبه، فإذا عالج بهيمةً قسا عليها، النبي عليه الصلاة والسلام رأى بعض أصحابه يذبح شاةً أمام أختها فوبخَّه وقال: هلا حجبتها عن أختها:
(( أَوَ تريد أن تميتها مرتين. ))
[ الطبراني عن عبد الله بن عباس ]
في بقلبه رحمة.
كل من في الأرض، وكل ما في الأرض يلعن الذي يُبعِد الناس عن الله عزَّ وجل، ليس هناك شخص ثالث، مُقرِّب ومبَعِّد، محبب ومنفِّر، واصل وقاطع، الناس رجلان؛ رجل يدعو إلى الله، ورجل يُبعد الناس عن الله، الأول يدعوهم إلى طاعته، يدعوهم إلى معرفته، يدعوهم إلى اتباع سُنَّة نبيه، يُقدم لهم نموذجاً حيّاً صادقاً مخلصاً؛ والثاني يحببهم في الدنيا، يُرَغبهم في متاعها، في مالها، يُبعد عنهم شبح الآخرة، فإذاً لماذا هؤلاء: ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ﴾ يلعنهم الخلق كافةً، حتى غير الإنسان، مرَّة وجدت إنساناً يبيع السمك الطازج، يصطاد السمك، والسمك يتحرَّك حركة عشوائيَّة، يذبحه ويخرج أحشاءه، قبل أن يسكن، الله يقول:
﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)﴾
أي سكنتْ، رأيت إنساناً يأخذ دجاجة، يذبحها ويضعها في ماءٍ يغلي فوراً، حتى يسهل عليه نتف ريشها، هذا وحش، مخلوق له روح، ذبحتَها، اِنتَظر حتى تهدأ، ثم ضَعْها في ماءٍ ساخن، وهي لا تزال تشعر وتحس يضعها في ماء يغلي.
الذي يكتم ما أنزل الله يُبعد الناس عن الله:
اللاعنون الخلق كافة، فالبعيد عن الله كيفما تحرَّك يؤذي، لذلك المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض، والكافر:
﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)﴾
لأنه مؤذٍ، فالذي يكتم يُبعد الناس عن الله، طريق السعادة قطعهم عنه، طريق الأمن قطعهم عنه، طريق التوفيق قطعهم عنه، طريق الطمأنينة قطعهم عنه، عيَّشهم بالدنيا، بهموم الدنيا، قال: هؤلاء ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ يُبعدهم عن رحمته، ويلعنهم الخلق كافةً، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ هذه رحمة الله، دائماً يوجد استثناء.
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾
إذا كان هناك كتمان يجب أن يكون هناك تبيين، تابوا عن كتمان العلم، وأصلحوا ما أفسدوا سابقاً، وبينوا، ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ .
الدين أساس الأمن والطمأنينة عند الإنسان:
أحد إخواننا له صديق يعاني من أزمة نفسيَّة، فأخذه إلى طبيب نفسي، فالطبيب سأله عن أحواله، قال له: له درس علم؟ قال له: هذا السبب، هو درس بأوروبا أن الدين يُخدر الإنسان، يُعقِّد الإنسان، فحسب دراسته يجب أن يكون لهذا الشاب صديقة حتى يكون سويّاً، ويجب أن يكون منفتحاً على الحياة، ويفعل كل شيء بلا قيد ليؤكد شخصيَّته، فهذا الأخ فهيم، قدَّم لهذا الطبيب عشرة أشرطة وكتاباً، هذا الطبيب يبدو أنه صادق، لكن غابت عنه الحقائق، عكف على قراءة الكتاب، وسماع هذه الأشرطة، وبدَّل كلامه مئة وثمانين درجة، صار يقول: الدين يخلق صحَّة نفسيَّة عند الإنسان، الدين أساس الأمن عند الإنسان، أساس الطمأنينة، أساس التألُّق، هذه الحقائق غابت عنه، فلما عرف الحقيقة بيَّن عكسها، هذا الله عزَّ وجل يكرمه، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ هناك طبيب نفسي يعدّ السلوك المنحرف هو السوي، السلوك المنحرف التفلت من منهج الله هو الصحَّة النفسيَّة، أما الانضباط فيعده عقدة، هكذا يوجد أطباء درسوا، درسوا علم نفس في جامعات أوروبا، والجامعات الغربيَّة أساسها الشخص الغربي، ليس له منهج يسير عليه إطلاقاً، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ .
الدين سبب الصحة النفسية للإنسان:
لفت نظري هذا الطبيب أنه خلال تفُّهمه لحقائق الدين -وإن كانت سريعة-صار يتكلم كلاماً عكس الكلام الأول، إن الدين سبب الصحة النفسية للإنسان، الدين يُحدث توازناً، يعمل طمأنينة، يعمل شعوراً بالأمن.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)﴾
طبعاً إذا مات الإنسان مؤمناً لا يوجد عنده مشكلة، أما إذا مات الكافر فله جهنم خالداً مخلَّداً فيها:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)﴾
وهذا إن شاء الله في الدرس القادم نبدأ به.
الملف مدقق